فصل: فَصْلٌ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ فِي سَرِيّةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ السّهْمِيّ:

ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النّسَاءَ 59] فِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ السّهْمِيّ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَرِيّةٍ.

.أَمْرُ ابْنِ حُذَافَةَ مَنْ مَعَهُ دُخُولَ النّارِ:

وَثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ السّلَمِيّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى سَرِيّةٍ بَعَثَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا قَالَ فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ اجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوا ثُمّ قَالَ أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ فَادْخُلُوهَا قَالَ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَقَالُوا: إنّمَا فَرَرْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّارِ فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتْ النّارُ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إنّمَا الطّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَهَذَا هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ.

.مَعْنَى قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا:

فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ دَخَلُوهَا دَخَلُوهَا طَاعَةً لِلّهِ وَرَسُولِهِ فِي ظَنّهِمْ فَكَانُوا مُتَأَوّلِينَ مُخْطِئِينَ فَكَيْفَ يُخَلّدُونَ فِيهَا؟ قِيلَ لَمّا كَانَ إلْقَاءُ نُفُوسِهِمْ فِي النّارِ مَعْصِيَةً يَكُونُونَ بِهَا قَاتِلِي أَنْفُسِهِمْ فَهَمّوا بِالْمُبَادَرَةِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ هَلْ هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ؟ كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى مَا هُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْهِمْ وَلَا تَسُوغُ طَاعَةُ وَلِيّ الْأَمْرِ فِيهِ لِأَنّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ فَكَانَتْ طَاعَةُ مَنْ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ النّارِ مَعْصِيَةً لِلّهِ وَرَسُولِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الطّاعَةُ هِيَ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ لِأَنّهَا نَفْسُ الْمَعْصِيَةِ فَلَوْ دَخَلُوهَا لَكَانُوا عُصَاةً لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ كَانُوا مُطِيعِينَ لِوَلِيّ الْأَمْرِ فَلَمْ تَدْفَعْ طَاعَتُهُمْ لِوَلِيّ الْأَمْرِ مَعْصِيَتَهُمْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ لِأَنّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُسْتَحِقّ لِلْوَعِيدِ وَاللّهُ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى هَذَا النّهْيِ طَاعَةً لِمَنْ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ إلّا فِي الْمَعْرُوفِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ مَنْ عَذّبَ نَفْسَهُ طَاعَةً لِوَلِيّ الْأَمْرِ فَكَيْفَ مَنّ عَذّبَ مُسْلِمًا لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ طَاعَةً لِوَلِيّ الْأَمْرِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الصّحَابَةُ الْمَذْكُورُونَ لَوْ دَخَلُوهَا لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ قَصْدِهِمْ طَاعَةَ اللّهِ وَرَسُولِهِ بِذَلِكَ الدّخُولِ فَكَيْفَ بِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الطّاعَةِ الرّغْبَةُ وَالرّهْبَةُ الدّنْيَوِيّةُ. وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَوْ دَخَلُوهَا لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ كَوْنِهِمْ قَصَدُوا طَاعَةَ الْأَمِيرِ وَظَنّوا أَنّ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُلَبّسِينَ الشّيَاطِينِ وَأَوْهَمُوا الْجُهّالَ أَنّ ذَلِكَ مِيرَاثٌ مِنْ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَأَنّ النّارَ قَدْ تَصِيرُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا صَارَتْ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَخِيَارُ هَؤُلَاءِ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ يَظُنّ أَنّهُ دَخَلَهَا بِحَالٍ رَحْمَانِيّ وَإِنّمَا دَخَلَهَا بِحَالٍ شَيْطَانِيّ فَإِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهِ فَهُوَ مُلَبّسٌ عَلَى النّاسِ يُوهِمُهُمْ أَنّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرّحْمَنِ وَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشّيْطَانِ وَأَكْثَرُهُمْ يَدْخُلُهَا بِحَالٍ بُهْتَانِيّ وَتَحَيّلٍ إنْسَانِيّ فَهُمْ فِي دُخُولِهَا فِي الدّنْيَا ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ وَمُلَبّسٌ وَمُتَحَيّلٌ وَنَارُ الْآخِرَةِ أَشَدّ عَذَابًا وَأَبْقَى.

.فَصْلٌ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ:

قَالَ نَافِعٌ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَقَالَ سُلَيْمَانُ التّيْمِيّ: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَيْبَرَ بَعَثَ السّرَايَا وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتّى اسْتَهَلّ ذُو الْقَعْدَةِ ثُمّ نَادَى فِي النّاسِ بِالْخُرُوجِ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَهُوَ الشّهْرُ الّذِي صَدّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّى إذَا بَلَغَ يَأْجُجَ وَضَعَ الْأَدَاةَ كُلّهَا الْحَجَفَ وَالْمَجَانّ وَالنّبْلَ وَالرّمَاحَ وَدَخَلُوا بِسِلَاحِ الرّاكِبِ السّيُوفِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ الْعَامِرِيّةِ فَخَطَبَهَا إلَيْهِ فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَكَانَتْ أُخْتُهَا أُمّ الْفَضْلِ تَحْتَهُ فَزَوّجَهَا الْعَبّاسُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ اكْشِفُوا عَنْ الْمَنَاكِبِ وَاسْعَوْا فِي الطّوَافِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ وَقُوّتَهُمْ. وَكَانَ يُكَايِدُهُمْ بِكُلّ مَا اسْتَطَاعَ فَوَقَفَ أَهْلُ مَكّةَ: الرّجَالُ وَالنّسَاءُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْتَجِزُ مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ يَقُولُ:
خَلّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ** قَدْ أَنْزَلَ الرّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ

فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى رَسُولِهِ ** يَا رَبّ إنّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ

إنّي رَأَيْتُ الْحَقّ فِي قَبُولِهِ ** الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ** وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ

وَتَغَيّبَ رِجَالٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَنَقًا وَغَيْظًا فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثًا فَلَمّا أَصْبَحَ مِنْ الْيَوْمِ الرّابِعِ أَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ يَتَحَدّثُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَصَاحَ حُوَيْطِبٌ نُنَاشِدُك اللّهَ وَالْعَقْدَ لَمَا خَرَجْتَ مِنْ أَرْضِنَا فَقَدْ مَضَتْ الثّلَاثُ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَا أُمّ لَك لَيْسَتْ بِأَرْضِكَ وَلَا أَرْضِ آبَائِك وَاَللّهِ لَا نَخْرُجُ ثُمّ نَادَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُوَيْطِبًا أَوْ سُهَيْلًا فَقَالَ إنّي قَدْ نَكَحْتُ مِنْكُمْ امْرَأَةً فَمَا يَضُرّكُمْ أَنْ أَمْكُثَ حَتّى أَدْخُلَ بِهَا وَنَضَعَ الطّعَامَ فَنَأْكُلُ وَتَأْكُلُونَ مَعَنَا فَقَالُوا: نُنَاشِدُك اللّهَ وَالْعَقْدَ إلّا خَرَجْتَ عَنّا فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا رَافِعٍ فَأَذّنَ بِالرّحِيلِ وَرَكِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بَطْنَ سَرِفَ فَأَقَامَ بِهَا وَخَلّفَ أَبَا رَافِعٍ لِيَحْمِلَ مَيْمُونَةَ إلَيْهِ حِين يُمْسِي فَأَقَامَ حَتّى قَدِمَتْ مَيْمُونَةُ وَمَنْ مَعَهَا وَقَدْ لَقُوا أَذًى وَعَنَاءً مِنْ سُفَهَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَصِبْيَانِهِمْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ ثُمّ أَدْلَجَ وَسَارَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدّرَ اللّهُ أَنْ يَكُونَ قَبْرُ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ حَيْثُ بَنَى بِهَا.

.فَصْلٌ بَيَانُ خَطَإِ مَنْ قَالَ تَزَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ:

وَأَمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ فَمِمّا اُسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ وَعُدّ مِنْ وَهْمِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ: وَوَهِمَ ابْنُ عَبّاسٍ وَإِنْ كَانَتْ خَالَتَهُ مَا تَزَوّجَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا بَعْدَ مَا حَلّ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمّ عَنْ مَيْمُونَةَ تَزَوّجَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ تَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْت الرّسُولَ بَيْنَهُمَا صَحّ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ: هَذَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ يَزْعُمُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَكَحَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ وَكَانَ الْحِلّ وَالنّكَاحُ جَمِيعًا فَشُبّهَ ذَلِكَ عَلَى النّاسِ. وَقَدْ قِيلَ إنّهُ تَزَوّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَفِي هَذَا نَظَرٌ إلّا أَنْ يَكُونَ وَكّلَ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا قَبْلَ إحْرَامِهِ وَأَظُنّ الشّافِعِيّ ذَكَرَ ذَلِكَ قَوْلًا فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنّهُ تَزَوّجَهَا بَعْدَ حِلّهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَيْمُونَةَ نَفْسِهَا وَقَوْلُ السّفِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ أَبُو رَافِعٍ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ النّقْلِ.
وَالثّانِي: أَنّهُ تَزَوّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَجَمَاعَةٍ.
وَالثّالِثُ أَنّهُ تَزَوّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ. وَقَدْ حُمِلَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ تَزَوّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى أَنّهُ تَزَوّجَهَا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ لَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ قَالُوا: وَيُقَالُ أَحْرَمَ الرّجُلُ إذَا عَقَدَ الْإِحْرَامَ وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا بِدَلِيلِ قَوْلِ الشّاعِرِ:
قَتَلُوا ابْنَ عَفّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا ** وَرِعًا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولَا

وَإِنّمَا قَتَلُوهُ فِي الْمَدِينَةِ حَلَالًا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ وَلَوْ قُدّرَ تَعَارُضُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ هَاهُنَا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِأَنّ الْفِعْلَ مُوَافِقٌ لَكَانَ رَافِعًا لِمُوجَبِ الْقَوْلِ وَالْقَوْلُ رَافِعٌ لِمُوجَبِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيّةِ فَيَلْزَمُ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ مَرّتَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ قَاعِدَةِ الْأَحْكَامِ وَاَللّه أَعْلَمُ.

.فصل اخْتِلَافُ عَلِيّ وَزَيْدٍ وَجَعْفَرٍ فِي حَضَانَةِ بِنْتِ حَمْزَةَ:

وَلَمّا أَرَادَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكّةَ تَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمّ يَا عَمّ فَتَنَاوَلَهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ دُونَكِ ابْنَةَ عَمّك فَحَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ فَقَالَ عَلِيّ أَنَا أَخَذْتهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمّي وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي وَقَالَ زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالَتِهَا: وَقَالَ الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمّ وَقَالَ لِعَلِيّ أَنْتَ مِنّي وَأَنَا مِنْكَ وَقَالَ لِجَعْفَرٍ أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي وَقَالَ لِزَيْدٍ أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا مُتّفَقٌ عَلَى صِحّتِهِ.

.الْفِقْهُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْقِصّةِ الْخَالَةُ مُقَدّمَةٌ فِي الْحَضَانَةِ:

وَفِي هَذِهِ الْقِصّةِ مِنْ الْفِقْهِ:
أَنّ الْخَالَةَ مُقَدّمَةٌ فِي الْحَضَانَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَقَارِبِ بَعْدَ الْأَبَوَيْنِ.

.تَزَوّجُ الْحَاضِنَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ الطّفْلِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا:

وَأَنّ تَزَوّجَ الْحَاضِنَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ الطّفْلِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا. نَصّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَلَى أَنّ تَزْوِيجَهَا لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا فِي الْجَارِيَةِ خَاصّةً وَاحْتَجّ بِقِصّةِ بِنْتِ حَمْزَةَ هَذِهِ وَلَمّا كَانَ ابْنُ الْعَمّ لَيْسَ مَحْرَمًا لَمْ يُفَرّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيّ فِي ذَلِكَ وَقَالَ تَزَوّجُ الْحَاضِنَةِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا لِلْجَارِيَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ: لَا يَكُونُ تَزَوّجُهَا مُسْقِطًا لِحَضَانَتِهَا بِحَالٍ ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى.

.الِاخْتِلَافُ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ:

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ. كَانَ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ.
وَالثّانِي: لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ حَزْمٍ.
وَالثّالِثُ إنْ كَانَ الطّفْلُ بِنْتًا لَمْ تَسْقُطْ الْحَضَانَةُ وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا سَقَطَتْ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنّا: إذَا تَزَوّجَتْ الْأُمّ وَابْنُهَا صَغِيرٌ أُخِذَ مِنْهَا قِيلَ لَهُ وَالْجَارِيَةُ مِثْلُ الصّبِيّ؟ قَالَ لَا الْجَارِيَةُ تَكُونُ مَعَهَا إلَى سَبْعِ سِنِينَ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى عَنْهُ أَنّهَا أَحَقّ بِالْبِنْتِ وَإِنْ تَزَوّجَتْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ.
وَالرّابِعُ أَنّهَا إذَا تَزَوّجَتْ بِنَسِيبٍ مِنْ الطّفْلِ لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا وَإِنْ تَزَوّجَتْ بِأَجْنَبِيّ سَقَطَتْ ثُمّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنّهُ يَكْفِي كَوْنُهُ نَسِيبًا فَقَطْ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَإِطْلَاقِهِمْ.
الثّانِي: أَنّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعَ ذَلِكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيّةِ.
الثّالِثُ أَنّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطّفْلِ وِلَادَةٌ بِأَنْ يَكُونَ جَدّا لِلطّفْلِ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشّافِعِيّ.

.الِاخْتِلَافُ فِي تَقْدِيمِ الْخَالَةِ عَلَى الْعَمّةِ:

وَفِي الْقِصّةِ حُجّةٌ لِمَنْ قَدّمَ الْخَالَةَ عَلَى الْعَمّةِ وَقَرَابَةَ الْأُمّ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ فَإِنّهُ قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا وَقَدْ كَانَتْ صَفِيّةُ عَمّتُهَا مَوْجُودَةً إذْ ذَاكَ وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

.حُجّةُ مَنْ قَدّمَ الْعَمّةَ عَلَى الْخَالَةِ:

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّ الْعَمّةَ مُقَدّمَةٌ عَلَى الْخَالَةِ- وَهِيَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا- وَكَذَلِكَ نِسَاءُ الْأَبِ يُقَدّمْنَ عَلَى نِسَاءِ الْأُمّ لِأَنّ الْوِلَايَةَ عَلَى الطّفْلِ فِي الْأَصْلِ لِلْأَبِ وَإِنّمَا قُدّمَتْ عَلَيْهِ الْأُمّ لِمَصْلَحَةِ الطّفْلِ وَكَمَالِ تَرْبِيَتِهِ وَشَفَقَتِهَا وَحُنُوّهَا وَالْإِنَاثُ أَقْوَمُ بِذَلِكَ مِنْ الرّجَالِ فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إلَى النّسَاءِ فَقَطْ أَوْ الرّجَالِ فَقَطْ كَانَتْ قَرَابَةُ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ قَرَابَةِ الْأُمّ كَمَا يَكُونُ الْأَبُ أَوْلَى مِنْ كُلّ ذَكَرٍ سِوَاهُ وَهَذَا قَوِيّ جِدّا. وَيُجَابُ عَنْ تَقْدِيمِ خَالَةِ ابْنَةِ حَمْزَةَ عَلَى عَمّتِهَا بِأَنّ الْعَمّةَ لَمْ تَطْلُبْ الْحَضَانَةَ وَالْحَضَانَةُ حَقّ لَهَا يُقْضَى لَهَا بِهِ بِطَلَبِهِ بِخِلَافِ الْخَالَةِ فَإِنّ جَعْفَرًا كَانَ نَائِبًا عَنْهَا فِي طَلَبِ الْحَضَانَةِ وَلِهَذَا قَضَى بِهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا فِي غَيْبَتِهَا. وَأَيْضًا فَكَمَا أَنّ لِقَرَابَةِ الطّفْلِ أَنْ يَمْنَعَ الْحَاضِنَةَ مِنْ حَضَانَةِ الطّفْلِ إذَا تَزَوّجَتْ فَلِلزّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَخْذِهِ وَتَفَرّغِهَا لَهُ فَإِذَا رَضِيَ الزّوْجُ بِأَخْذِهِ حَيْثُ لَا تَسْقُطُ حَضَانَتُهَا لِقَرَابَتِهِ أَوْ لِكَوْنِ الطّفْلِ أُنْثَى عَلَى رِوَايَةٍ مُكّنَتْ مِنْ أَخْذِهِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَالْحَقّ لَهُ وَالزّوْجُ هَاهُنَا قَدْ رَضِيَ وَخَاصَمَ فِي الْقِصّةِ وَصَفِيّةُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا طَلَبٌ. وَأَيْضًا فَابْنُ الْعَمّ لَهُ حَضَانَةُ الْجَارِيَةِ الّتِي لَا تُشْتَهَى فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بَلْ وَإِنْ كَانَتْ تُشْتَهَى فَلَهُ حَضَانَتُهَا أَيْضًا وَتُسَلّمُ إلَى امْرَأَةٍ ثِقَةٍ يَخْتَارُهَا هُوَ أَوْ إلَى مَحْرَمِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنّهُ قَرِيبٌ مِنْ عَصَبَاتِهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْأَجَانِبِ وَالْحَاكِمِ وَهَذِهِ إنْ كَانَتْ طِفْلَةً فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ كَانَتْ مِمّنْ يُشْتَهَى فَقَدْ سُلّمَتْ إلَى خَالَتِهَا فَهِيَ وَزَوْجُهَا مَنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.